الثلاثاء، 19 يناير 2016
الفرقة الناجية واللغو اللغوي:علي الرباعي
قلَّ ما تحدث
المنصفون عن أنفسهم حديث مُعجب، وأقل منه تعلقهم بالدنيا وزخرفها، وكثيراً ما
اجتنبوا تزكية ذواتهم، وحَذِروا من الثناء على صفاتهم عملاً بقول البارئ (فَلا
تُزَكُّوا أَنفسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) وبما أنَّه ما تفشَّى بين قوم
خطابٌ عنصري إلا كانت بداية نهايتهم؛ فإنَّ مما يثير بركان الأسئلة اليومَ أنَّ
غالب المتعصِّبِين في مجتمعنا خرجوا من مدن ومناطق غير المدينتين المقدَّسَتين، أي
أنهم ليسوا من مخرجات الحرمين الشريفين عبر مسارهما التاريخي ومسيرتهما الشرعية،
ومتى ما أخذنا الجانب التواتري للإسلام حُجَّةً فيفترض أن نعوِّل دينياً على سكان
مكة والمدينة؛ كونهم توارثوا العبادات والمعاملات والأحكام والأخلاق كابراً عن
كابر، مهما حاول البعض مغالبتنا بـ (اللغو اللغوي)، وإيهامنا بأنَّ الفرقة الناجية
محصورةٌ في منطقة بذاتها يتعالى صوتها مع كل مساحة تتوفر للحراك الاجتماعي، وينمو
هديرُ أمواجِها كلما نما التفاعل بين المجتمع وبين قوى التغيير، لتتحرك كقوى مضادة
للتحديث، ولتشتت جهود الأغلبية باسم «الخصوصية»، وبما أن زمن الشعارات ولَّى إلا أن
الخُطب الجذَّابَة الضاربة على وتر الخوف على العقيدة والأخلاق لاتزال تجتهد لعرقلة
مسيرتنا العلمية والعملية مع تناسي جُلِّ هؤلاء الدعاة أنَّ الناس لديها قابلية
للكفر بما يُعطِّل مصالحَها، ففي أزمنة التنوير الأوروبية تخلى المجتمع عن الكنيسة
وتجاهلها، وتبع التكنوقراط الضامنين للشعب قوتَ يومِه وحريَّة اختياره وتطور بلاده،
وعبرت أممٌ قنطرةَ النظام الديني مؤثرةً عليه نظاماً علمانياً يحقق لها حياة كريمة
عادلة، وربما عزا البعض تحولات أوروبا إلى لعبة سياسية، أو صراع قوى كبرى، وهذا
وارد إلا أنَّ أحد الأسباب الظاهرة تمثل في «تحول الدين إلى أغلال»، أو وصايا تخنق
جوهر الإنسانية وتزهِّدها فيما تطمح إليه من تقدم في مسارات الحياة الاقتصادية
الاجتماعية اليومية، وبما أنَّ طبيعة الحياة المعاصرة القلق والتوتر فمن الحصافة أن
يتورَّعَ المنتسبون إلى جماعة أو طائفة أو عائلة أو منطقة أو قبيلة عن الحديث في
شأن من شؤون الله، وأن يحذروا من الوقوع في فخ التألي على الله، ومن الموضوعية
الاعتراف بأننا مهما أوتينا من علمٍ نظري فإننا لم نؤتَ إلا قليلاً، إضافةً إلى
أننا مثقلون بأعباء وتراكمات تاريخية تُزهِّدُنا في بعضنا، وبما أنَّ الفرقة
الناجية مطمح للكل، ومنتهى يسعى إليه المجتهدون، فمن الإنصاف أن نضع لها ضوابط
ومواصفات تؤهل كل مَن تحققت فيه أن يكون من الفرقة الناجية منها على سبيل المثال
«التواضع، والزهد في الدنيا، والبعد عن مواطن أكل أموال الناس بالباطل، والعدل في
القول والفعل، والتوافق بين القناعات الباطنة والسلوك الظاهر، وخدمة البشرية بما
ينفعها»، ومن كان قارئاً جيّداً للتاريخ سيرى بكل وضوح أنَّ أزهى العصور الإسلامية
هي تلك التي لم يكن المسلم يرى نفسه أفضل من أخيه الإنسان، وهذا ما يفرض علينا
قراءة تاريخ السلم الإسلامي لزرع النقاء لا لنزع الرؤوس وسفك الدماء.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق